الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **
*3* الشرح: قوله: (باب من بدأ بالحلاب أو الطيب عند الغسل) مطابقة هذه الترجمة لحديث الباب أشكل أمرها قديما وحديثا على جماعة من الأئمة، فمنهم من نسب البخاري فيها إلى الوهم، ومنهم من ضبط لفظ الحلاب على غير المعروف في الرواية لتتجه المطابقة، ومنهم من تكلف لها توجيها من غير تغيير، فأما الطائفة الأولى فأولهم الإسماعيلي فإنه قال في مستخرجه: رحم الله أبا عبد الله - يعني البخاري - من ذا الذي يسلم من الغلط، سبق إلى قلبه أن الحلاب طيب وأي معنى للطيب عند الاغتسال قبل الغسل، وإنما الحلاب إناء وهو ما يحلب فيه يسمى حلابا ومحلبا. قال: وفي تأمل طرق هذا الحديث بيان ذلك حيث جاء فيه " كان يغتسل من حلاب". انتهى. وهي رواية ابن خزيمة وابن حبان أيضا. وقال الخطابي في شرح أبي داود: الحلاب إناء يسع قدر حلب ناقة، قال: وقد ذكره البخاري وتأوله على استعمال الطيب في الطهور، وأحسبه توهم أنه أريد به المحلب الذي يستعمل في غسل الأيدي، وليس الحلاب من الطيب في شيء، وإنما هو ما فسرت لك. قال وقال الشاعر: صاح هل رأيت أو سمعت براع رد في الضرع ما فرى في الحلاب وتبع الخطابي ابن قرقول في المطالع وابن الجوزي وجماعة. وأما الطائفة الثانية فأولهم الأزهري، قال في التهذيب: الحلاب في هذا الحديث ضبطه جماعة بالمهملة واللام الخفيفة أي ما يحلب فيه كالمحلب فصحفوه، وإنما هو الجلاب بضم الجيم وتشديد اللام وهو ماء الورد فارسي معرب. وقد أنكر جماعة على الأزهري هذا من جهة أن المعروف في الرواية بالمهملة والتخفيف ومن جهة المعنى أيضا، قال ابن الأثير لأن الطيب يستعمل بعد الغسل أليق منه قبله وأولى، لأنه إذا بدأ به ثم اغتسل أذهبه الماء. وقال الحميدي في الكلام على غريب الصحيحين: ضم مسلم هذا الحديث مع حديث الفرق وحديث قدر الصاع في موضع واحد فكأنه تأولها على الإناء، وأما البخاري فربما ظن ظان أنه تأوله على أنه نوع من الطيب يكون قبل الغسل لأنه لم يذكر في الترجمة غير هذا الحديث. انتهى. فجعل الحميدي كون البخاري أراد ذلك احتمالا، أي ويحتمل أنه أراد غير ذلك لكن لم يفصح به، وقول القاضي عياض: الحلاب والمحلب بكسر الميم إناء يملؤه قدر حلب الناقة، وقيل المراد أي في هذا الحديث محلب الطيب وهو بفتح الميم قال: وترجمة البخاري تدل على أنه التفت إلى التأويلين، قال: وقد رواه بعضهم في غير الصحيحين الجلاب بضم الجيم وتشديد اللام. يشير إلى ما قاله الأزهري. وقال النووي: قد أنكر أبو عبيد الهروي على الأزهري ما قاله. وقال القرطبي: الحلاب بكسر المهملة لا يصح غيرها، وقد وهم من ظنه من الطيب وكذا من قاله بضم الجيم. انتهى. وأما الطائفة الثالثة فقال المحب الطبري: لم يرد البخاري بقوله الطيب ما له عرف طيب، وإنما يبدأ تطييب البدن بإزالة ما فيه من وسخ ودرن ونجاسة إن كانت، وإنما أراد بالحلاب الإناء الذي يغتسل منه يبدأ به فيوضع فيه ماء الغسل قال: و " أو " في قوله " أو الطيب " بمعنى الواو، وكذا ثبت في بعض الروايات كما ذكره الحميدي، ومحصل ما ذكره أنه يحمله على إعداد ماء الغسل ثم الشروع في التنظيف قبل الشروع في الغسل. وفي الحديث البداءة بشق الرأس لكونه أكثر شعثا من بقية البدن من أجل الشعر، وقيل يحتمل أن يكون البخاري أراد الإشارة إلى ما روي عن ابن مسعود أنه كان يغسل رأسه بخطمي ويكتفي بذلك في غسل الجنابة كما أخرجه ابن أبي شيبة وغيره عنه، ورواه أبو داود مرفوعا عن عائشة بإسناد ضعيف، فكأنه يقول: دل هذا الحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعمل الماء في غسل الجنابة، ولم يثبت أنه كان يقدم على ذلك شيئا مما ينقي البدن كالسدر وغيره. ويقوي ذلك ما في معظم الروايات " بالحلاب أو الطيب"، فقوله أو يدل على أن الطيب قسيم الحلاب فيحمل على أنه من غير جنسه، وجميع من اعترض عليه حمله على أنه من جنسه فلذلك أشكل عليهم، والمراد بالحلاب على هذا الماء الذي في الحلاب فأطلق على الحال اسم المحل مجازا. وقال الكرماني: يحتمل أن يكون أراد بالحلاب الإناء الذي فيه الطيب فالمعنى بدأ تارة بطلب ظرف الطيب وتارة بطلب نفس الطيب فدل حديث الباب على الأول دون الثاني. انتهى. وهو مستمد من كلام ابن بطال، فإنه قال بعد حكايته لكلام الخطابي: وأظن البخاري جعل الحلاب في هذه الترجمة ضربا من الطيب قال: فإن كان ظن ذلك فقد وهم، وإنما الحلاب الإناء الذي كان فيه طيب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يستعمله عند الغسل. قال: وفي الحديث الحض على استعمال الطيب عند الغسل تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم. انتهى كلامه. فكأنه جعل قوله في الحديث " فأخذ بكفه " أي من الطيب الذي في الإناء " فبدأ بشق رأسه الأيمن " أي فطيبه إلخ. ومحصله أن الصفة المذكورة في الحديث صفة التطييب لا الاغتسال، وهو توجيه حسن بالنسبة لظاهر لفظ الرواية التي ساقها البخاري، لكن من تأمل طرق الحديث كما قال الإسماعيلي عرف أن الصفة المذكورة للغسل لا للتطيب، فروى الإسماعيلي من طريق مكي بن إبراهيم عن حنظلة في هذا الحديث " كان يغتسل بقدح " بدل قوله بحلاب وزاد فيه " كان يغسل يديه ثم يغسل وجهه ثم يقول بيده ثلاث غرف " الحديث. وللجوزقي من طريق حمدان السلمي عن أبي عاصم " اغتسل فأتى بحلاب فغسل شق رأسه الأيمن " الحديث، فقوله اغتسل ويغسل يدل على أنه إناء الماء لا إناء الطيب، وأما رواية الإسماعيلي من طريق بندار عن أبي عاصم بلفظ " كان إذا أراد أن يغتسل من الجنابة دعا بشيء دون الحلاب فأخذ بكفه فبدأ بالشق الأيمن ثم الأيسر ثم أخذ بكفيه ماء فأفرغ على رأسه " فلولا قوله ماء لأمكن حمله على التطيب قبل الغسل، لكن رواه أبو عوانة في صحيحه عن يزيد بن سنان عن أبي عاصم بلفظ " كان يغتسل من حلاب فيأخذ غرفة بكفيه فيجعلها على شقه الأيمن ثم الأيسر كذلك " فقوله يغتسل وقوله غرفة أيضا مما يدل على أنه إناء الماء. وفي رواية لابن حبان والبيهقي " ثم يصب على شق رأسه الأيمن " والتطيب لا يعبر عنه بالصب، فهذا كله يبعد تأويل من حمله على التطيب. ورأيت عن بعضهم - ولا أحفظه الآن - أن المراد بالطيب في الترجمة الإشارة إلى حديث عائشة أنها كانت تطيب النبي صلى الله عليه وسلم عند الإحرام، قال " والغسل من سنن الإحرام " وكأن الطيب حصل عند الغسل، فأشار البخاري هنا إلى أن ذلك لم يكن مستمرا من عادته. انتهى. ويقويه تبويب البخاري بعد ذلك بسبعة أبواب " باب من تطيب ثم اغتسل وبقي أثر الطيب " ثم ساق حديث عائشة " أنا طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم طاف في نسائه ثم أصبح محرما " وفي رواية بعدها " كأني أنظر إلى وبيص الطيب - أي لمعانه - في مفرقه صلى الله عليه وسلم وهو محرم " وفي رواية أخرى عنده قبيل هذا الباب " ثم يصبح محرما ينضخ طيبا " فاستنبط الاغتسال بعد التطيب من قولها " ثم طاف على نسائه " لأنه كناية عن الجماع ومن لازمه الاغتسال، فعرف أنه أغتسل بعد أن تطيب وبقي أثر الطيب بعد الغسل لكثرته، لأنه كان صلى الله عليه وسلم يحب الطيب ويكثر منه، فعلى هذا فقوله هنا " من بدأ بالحلاب " أي بإناء الماء الذي للغسل فاستدعى به لأجل الغسل، أو " من بدأ بالطيب " عند إرادة الغسل، فالترجمة مترددة بين الأمرين فدل حديث الباب على مداومته على البداءة بالغسل، وأما التطيب بعده فمعروف من شأنه، وأما البداءة بالطيب قبل الغسل فبالإشارة إلى الحديث الذي ذكرناه. وهذا أحسن الأجوبة عندي وأليقها بتصرفات البخاري والله أعلم. وعرف من هذا أن قول الإسماعيلي " وأي معنى للطيب عند الغسل " معترض، وكذا قول ابن الأثير الذي تقدم، وفي كلام غيرهما مما تقدم مؤاخذات لم نتعرض لها لظهورها. والله الهادي للصواب. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ حَنْظَلَةَ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اغْتَسَلَ مِنْ الْجَنَابَةِ دَعَا بِشَيْءٍ نَحْوَ الْحِلَابِ فَأَخَذَ بِكَفِّهِ فَبَدَأَ بِشِقِّ رَأْسِهِ الْأَيْمَنِ ثُمَّ الْأَيْسَرِ فَقَالَ بِهِمَا عَلَى وَسَطِ رَأْسِهِ الشرح: أبو عاصم المذكور في الإسناد هو النبيل وهو من كبار شيوخ البخاري وقد أكثر عنه في هذا الكتاب لكنه نزل في هذا الإسناد فأدخل بينه وبينه واسطة. وحنظلة هو ابن أبي سفيان الجمحي. والقاسم هو ابن محمد بن أبي بكر. وقوله "كان إذا اغتسل " أي إذا أراد أن يغتسل كما تبين من رواية الإسماعيلي. وقوله "دعا " أي طلب. وقوله "نحو الحلاب " أي إناء قريب من الإناء الذي يسمى الحلاب، وقد وصفه أبو عاصم بأنه أقل من شبر في شبر أخرجه أبو عوانة في صحيحه عنه. وفي رواية لابن حبان " وأشار أبو عاصم بكفيه " فكأنه حلق بشبريه يصف به دوره الأعلى. وفي رواية للبيهقي " كقدر كوز يسع ثمانية أرطال"، وزاد مسلم في روايته لهذا الحديث عن محمد بن المثنى أيضا بهذا الإسناد بعد قوله الأيسر " ثم بكفيه فقال بهما على رأسه " فأشار بقوله أخذ بكفيه إلى الغرفة الثالثة كما صرحت به رواية أبي عوانة، وقوله "بكفه " وقع في رواية الكشميهني " بكفيه " بالتثنية وقوله " على وسط رأسه " هو بفتح السين قال الجوهري كل موضع صلح فيه " بين " فهو وسط بالسكون وإن لم يصلح فهو بالتحريك. وفي الحديث استحباب البداءة بالميامن في التطهر، وبذلك ترجم عليه ابن خزيمة والبيهقي. وفيه الاجتزاء بالغسل بثلاث غرفات، وترجم على ذلك ابن حبان. وسنذكر الكلام على قوله " فقال بهما " في الباب الذي بعده إن شاء الله تعالى. *3* الشرح: قوله: (باب المضمضة والاستنشاق في الجنابة) أي في غسل الجنابة، والمراد هل هما واجبان فيه أم لا؟ وأشار ابن بطال وغيره إلى أن البخاري استنبط عدم وجوبهما من هذا الحديث، لأن في رواية الباب الذي بعده في هذا الحديث " ثم توضأ وضوءه للصلاة " فدل على أنهما للوضوء، وقام الإجماع على أن الوضوء في غسل الجنابة غير واجب، والمضمضمة والاستنشاق من توابع الوضوء فإذا سقط الوضوء سقطت توابعه، ويحمل ما روى من صفة غسله صلى الله عليه وسلم على الكمال والفضل. الحديث: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي سَالِمٌ عَنْ كُرَيْبٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ حَدَّثَتْنَا مَيْمُونَةُ قَالَتْ صَبَبْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُسْلًا فَأَفْرَغَ بِيَمِينِهِ عَلَى يَسَارِهِ فَغَسَلَهُمَا ثُمَّ غَسَلَ فَرْجَهُ ثُمَّ قَالَ بِيَدِهِ الْأَرْضَ فَمَسَحَهَا بِالتُّرَابِ ثُمَّ غَسَلَهَا ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ وَأَفَاضَ عَلَى رَأْسِهِ ثُمَّ تَنَحَّى فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ ثُمَّ أُتِيَ بِمِنْدِيلٍ فَلَمْ يَنْفُضْ بِهَا الشرح: قوله: (حدثنا عمر بن حفص) أي ابن غياث كما ثبت في رواية الأصيلي. قوله: (غسلا) بضم أوله أي ماء الاغتسال كما سبق في باب الغسل مرة. قوله: (ثم قال بيده الأرض) كذا في روايتنا، وللأكثر " بيده على الأرض " وهو من إطلاق القول على الفعل، وقد وقع إطلاق الفعل على القول في حديث " لا حسد إلا في اثنتين " قال فيه في الذي يتلو القرآن " لو أوتيت مثل ما أوتي هذا لفعلت مثل ما يفعل " وسيأتي في باب نفض اليدين قريبا من رواية أبي حمزة عن الأعمش في هذا الموضع " فضرب بيده الأرض " فيفسر " قال " هنا بضرب. قوله (ثم تنحى) أي تحول إلى ناحية. قوله: (ثم ينفض بها) زاد في رواية كريمة " قال أبو عبد الله يعني لم يتمسح " وأنث الضمير على إرادة الخرقة لأن المنديل خرقة مخصوصة، وسيأتي في باب من أفرغ على يمينه " قالت ميمونة فناولته خرقة"، وبقية مباحث الحديث تقدمت في باب الوضوء قبل الغسل. *3* الشرح: قوله: (باب مسح اليد بالتراب لتكون أنقى) أي لتصير اليد أنقى منها قبل المسح. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْحُمَيْدِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ كُرَيْبٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اغْتَسَلَ مِنْ الْجَنَابَةِ فَغَسَلَ فَرْجَهُ بِيَدِهِ ثُمَّ دَلَكَ بِهَا الْحَائِطَ ثُمَّ غَسَلَهَا ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ غُسْلِهِ غَسَلَ رِجْلَيْهِ الشرح: قوله: (حدثنا عبد الله بن الزبير الحميدي) كذا في روايتنا، واقتصر الأكثر على " حدثنا الحميدي". وسفيان هو ابن عيينة. قوله: (فغسل فرجه) هذه الفاء تفسيرية وليست تعقبية لأن غسل الفرج لم يكن بعد الفراغ من الاغتسال، وقد تقدمت مباحث هذا الحديث أيضا. ومن فوائد هذا السياق الإتيان فيه بثم الدالة على ترتيب ما ذكر فيه من صفة الغسل *3* وَأَدْخَلَ ابْنُ عُمَرَ وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ يَدَهُ فِي الطَّهُورِ وَلَمْ يَغْسِلْهَا ثُمَّ تَوَضَّأَ وَلَمْ يَرَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ بَأْسًا بِمَا يَنْتَضِحُ مِنْ غُسْلِ الْجَنَابَةِ الشرح: قوله: (باب هل يدخل الجنب يده في الإناء) أي الذي فيه ماء الغسل (قبل أن يغسلها) أي خارج الإناء (إذا لم يكن على يده قذر) أي من نجاسة وغيرها (غير الجنابة) أي حكمها، لأن أثرها مختلف فيه فدخل في قوله قذر، وأما حكمها فقال المهلب: أشار البخاري إلى أن يد الجنب إذا كانت نظيفة جاز له إدخالها الإناء قبل أن يغسلها، لأنه ليس شيء من أعضائه نجسا بسبب كونه جنبا. قوله (وأدخل ابن عمر والبراء بن عازب يده) أي أدخل كل واحد منهما يده. وفي رواية لأبي الوقت " يديهما " بالتثنية. قوله: (في الطهور) بفتح أوله أي الماء المعد للاغتسال، وأثر ابن عمر وصله سعيد بن منصور بمعناه، وروى عبد الرزاق عنه أنه كان يغسل يده قبل التطهر، ويجمع بينهما بأن ينزلا على حالين: فحيث لم يغسل كان متيقنا أن لا قذر في يده، وحيث غسل كان ظانا أو متيقنا أن فيها شيئا، أو غسل للندب وترك للجواز. وأثر البراء وصله ابن أبي شيبة بلفظ " أنه أدخل يده في المطهرة قبل أن يغسلها " وأخرج أيضا عن الشعبي قال " كان أصحاب صلى الله عليه وسلم يدخلون أيديهم الماء قبل أن يغسلوها وهم جنب". قوله: (ولم ير ابن عمر وابن عباس) أما أثر ابن عمر فوصله عبد الرزاق بمعناه، وأما أثر ابن عباس فوصله ابن أبي شيبة عنه، وعبد الرزاق من وجه آخر أيضا عنه، وتوجيه الاستدلال به للترجمة أن الجنابة الحكمية لو كانت تؤثر في الماء لامتنع الاغتسال من الإناء الذي تقاطر فيه ما لاقى بدن الجنب من ماء اغتساله، ويمكن أن يقال: إنما لم ير الصحابي بذلك بأسا لأنه مما يشق الاحتراز منه، فكان في مقام العفو، كما روى ابن أبي شيبة عن الحسن البصري قال: ومن يملك انتشار الماء؟ إنا لنرجو من رحمة الله ما هو أوسع من هذا. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ أَخْبَرَنَا أَفْلَحُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ تَخْتَلِفُ أَيْدِينَا فِيهِ الشرح: قوله: (حدثنا عبد الله بن مسلمة) زاد مسلم " ابن قعنب". قوله: (حدثنا) ولكريمة " أخبرنا أفلح " وهو ابن حميد كما رواه مسلم، ولم يخرج البخاري عن أفلح ابن سعيد شيئا. والقاسم هو ابن محمد، وقد تقدم هذا المتن في باب غسل الرجل مع امرأته من طريق أخرى مع مغايرة في آخره، وزاد مسلم في آخره " من الجنابة " أي لأجل الجنابة، ولأبي عوانة وابن حبان من طريق ابن وهب عن أفلح أنه سمع القاسم يقول سمعت عائشة. . فذكره وزاد فيه " وتلتقي " بعد قوله " تختلف أيدينا " فيه " وللإسماعيلي من طريق إسحاق بن سليمان عن أفلح " تختلف فيه أيدينا " يعني حتى تلتقي، وللبيهقي من طريقه " تختلف أيدينا فيه يعني وتلتقي " وهذا يشعر بأن قوله " وتلتقي " مدرج، وسيأتي في باب تخليل الشعر من وجه آخر عنها " كنا نغتسل من إناء واحد نغترف منه جميعا " فلعل الراوي قال " وتلتقي " بالمعنى، ومعنى " تختلف " أنه كان يغترف تارة قبلها وتغترف هي تارة قبله، ولمسلم من طريق معاذة عن عائشة " فيبادرني حتى أقول دع لي " زاد النسائي " وأبادره حتى يقول دعي لي " وفي هذا الحديث جواز اغتراف الجنب من الماء القليل، وأن ذلك لا يمنع من التطهر بذلك الماء ولا بما يفضل منه، ويدل على أن النهي عن انغماس الجنب في الماء الدائم إنما هو للتنزيه كراهية أن يستقذر، لا لكونه يصير نجسا بانغماس الجنب فيه، لأنه لا فرق بين جميع بدن الجنب وبين عضو من أعضائه. وأما توجيه الاستدلال به للترجمة فلأن الجنب لما جاز له أن يدخل يده في الإناء ليغترف بها قبل ارتفاع حدثه لتمام الغسل كما في حديث الباب دل على أن الأمر بغسل يده قبل إدخالها ليس لأمر يرجع إلى الجنابة، بل إلى ما لعله يكون بيده من نجاسة متيقنة أو مظنونة. الحديث: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اغْتَسَلَ مِنْ الْجَنَابَةِ غَسَلَ يَدَهُ الشرح: قوله: (حدثنا مسدد قال حدثنا حماد) هو ابن زيد، ولم يسمع من حماد بن سلمة. وهشام هو ابن عروة. قوله: (غسل يده) هكذا أورده مختصرا، وقد أخرجه أبو داود تاما عن مسدد بهذا السند لكن قال " يديه " بالتثنية وزاد " يصب على يده اليمنى " أي من الإناء " فيغسل فرجه يفرغ على شماله ثم يتوضأ وضوءه للصلاة"، الحديث. وهكذا أخرجه الإسماعيلي من طرق عن حماد بن زيد وسيأتي نحوه من وجوه أخر عن هشام في باب تخليل الشعر، قال المهلب. حمل البخاري أحاديث الباب التي لم يذكر فيها غسل اليدين قبل إدخالهما على حال تيقن نظافة اليد، وحديث هشام - يعني هذا - على ما إذا خشي أن يكون علق بها شيء، فاستعمل من اختلاف الحديثين ما جمع بينهما ونفى التعارض عنهما. انتهى. ويمكن أن يحمل الفعل على الندب، والترك على الجواز. أو يقال: حديث الترك مطلق وحديث الفعل مقيد، فيحمل المطلق على المقيد لأن في رواية الفعل زيادة لم تذكر في الأخرى. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَفْصٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ مِنْ جَنَابَةٍ وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ مِثْلَهُ الشرح: قوله: (حدثنا أبو الوليد) هو الطيالسي. قوله: (من جنابة) للكشميهني " من الجنابة " أي لأجل الجنابة. قوله: (وعن عبد الرحمن بن القاسم) هو معطوف على قوله " شعبة عن أبي بكر بن حفص " فلشعبة فيه إسنادان إلى عائشة حدثه أحد شيخيه به عن عروة والآخر عن القاسم، وقد وهم من زعم أن رواية عبد الرحمن معلقة، وقد أخرجها أبو نعيم والبيهقي من طريق أبي الوليد بالإسنادين وقالا: أخرجه البخاري مسعود وغيره في الأطراف. قوله: (مثله) أي مثل المتن المذكور، وللأصيلي " بمثله " بزيادة موحدة في أوله. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَبْرٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَرْأَةُ مِنْ نِسَائِهِ يَغْتَسِلَانِ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ زَادَ مُسْلِمٌ وَوَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ عَنْ شُعْبَةَ مِنْ الْجَنَابَةِ الشرح: قوله: (حدثنا أبو الوليد) هو الطيالسي أيضا، وهذا إسناد ثالث له عن شعبة أيضا في هذا المتن، لكن من طريق صحابي آخر. وهذا الإسناد بعينه تقدم لمتن آخر في باب علامة الإيمان. قوله: (والمرأة) جوز فيه الرفع على العطف والنصب على المعية واللام فيها للجنس. قوله: (زاد مسلم) هو ابن إبراهيم وهو من شيوخ البخاري. قوله (ووهب) زاد الأصيلي " وأبو الوقت بن جرير " أي ابن حازم وبذلك جزم أبو نعيم وغيره، ووقع في رواية أبي ذر ووهيب بالتصغير، وأظنه وهما فإن الحديث وجد بعد تتبع كثير من رواية وهب ابن جرير ولم نجده من رواية وهيب بن خالد، ووهب بن جرير من الرواة عن شعبة، وأما وهيب فهو من أقرانه، ومراد البخاري أن مسلم بن إبراهيم ووهب بن جرير رويا هذا الحديث عن شعبة بهذا الإسناد الذي رواه عنه أبو الوليد فزادا في آخره " من الجنابة " وقد أخرجه الإسماعيلي من رواية وهب بن جرير بدون هذه الزيادة، والله أعلم. *3* وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ غَسَلَ قَدَمَيْهِ بَعْدَ مَا جَفَّ وَضُوءُهُ الشرح: قوله: (باب تفريق الغسل والوضوء) أي جوازه، وهو قول الشافعي في الجديد، واحتج له بأن الله تعالى أوجب غسل أعضائه، فمن غسلها فقد أتى بما وجب عليه فرقها أو نسقها. ثم أيد ذلك بفعل ابن عمر، وبذلك قال ابن المسيب وعطاء وجماعة. وقال ربيعة ومالك: من تعمد ذلك فعليه الإعادة، ومن نسى فلا. وعن مالك إن قرب التفريق بني وإن طال أعاد. وقال قتادة والأوزاعي: لا يعيد إلا إن جف. وأجازه النخعي مطلقا في الغسل دون الوضوء، ذكر جميع ذلك ابن المنذر وقال: ليس مع من جعل الجفاف حدا لذلك حجة. وقال الطحاوي: الجفاف ليس بحدث فينقض كما لو جف جميع أعضاء الوضوء لم تبطل الطهارة قوله: (ويذكر عن ابن عمر) هذا الأثر رويناه في الأم عن مالك عن نافع عنه، لكن فيه أنه توضأ في السوق دون رجليه، ثم رجع إلى المسجد فمسح على خفيه ثم صلى. والإسناد صحيح، فيحتمل أنه إنما لم يجزم به لكونه بالمعنى. قال الشافعي: لعله قد جف وضوءه لأن الجفاف قد يحصل بأقل مما بين السوق والمسجد. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَحْبُوبٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ قَالَ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَتْ مَيْمُونَةُ وَضَعْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاءً يَغْتَسِلُ بِهِ فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَهُمَا مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثُمَّ أَفْرَغَ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ فَغَسَلَ مَذَاكِيرَهُ ثُمَّ دَلَكَ يَدَهُ بِالْأَرْضِ ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَغَسَلَ رَأْسَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ أَفْرَغَ عَلَى جَسَدِهِ ثُمَّ تَنَحَّى مِنْ مَقَامِهِ فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ الشرح: قوله: (حدثنا محمد بن محبوب) هو البصري، وعبد الواحد هو ابن زياد البصري، وقد تقدم هذا المتن من رواية موسى بن إسماعيل عنه في باب الغسل مرة وسياقهما واحد غالبا، إلا أن في ذلك " ثم تحول من مكانه " وفي هذا " تنحى من مقامه " وهما بمعنى، وأبدى الكرماني من هذا احتمال أن يكون اغتسل قائما. *3* الشرح: قوله: (باب من أفرغ) هذا الباب مقدم عند الأصيلي وابن عساكر على الذي قبله. واعترض على المصنف بأن الدعوى أعم من الدليل، والجواب أن ذلك في غسل الفرج بالنص وفي غيره بما عرف من شأنه أنه كان يحب التيامن كما تقدم، ومحله هنا فيما إذا كان يغترف من الإناء، قاله الخطابي. قال: فأما إذا كان ضيقا كالقمقم فإنه يضعه عن يساره ويصب الماء منه على يمينه. الحديث: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ قَالَتْ وَضَعْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُسْلًا وَسَتَرْتُهُ فَصَبَّ عَلَى يَدِهِ فَغَسَلَهَا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ قَالَ سُلَيْمَانُ لَا أَدْرِي أَذَكَرَ الثَّالِثَةَ أَمْ لَا ثُمَّ أَفْرَغَ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ فَغَسَلَ فَرْجَهُ ثُمَّ دَلَكَ يَدَهُ بِالْأَرْضِ أَوْ بِالْحَائِطِ ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَغَسَلَ رَأْسَهُ ثُمَّ صَبَّ عَلَى جَسَدِهِ ثُمَّ تَنَحَّى فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ فَنَاوَلْتُهُ خِرْقَةً فَقَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا وَلَمْ يُرِدْهَا الشرح: قوله: (حدثنا موسى بن إسماعيل) تقدم هذا الحديث من روايته أيضا في باب الغسل مرة، لكن شيخه هناك عبد الواحد وهنا أبو عوانة وهو الوضاح البصري. قوله: (وسترته) زاد ابن فضيل عن الأعمش " بثوب " والواو فيه حالية. قوله: (فصب) قيل هو معطوف على محذوف، أي فأراد الغسل فكشف رأسه فأخذ الماء فصب على يده، قاله الكرماني. ولا يتعين ما قاله، بل يحتمل أن يكون الوضع معقبا بالصب على ظاهره، والإرادة والكشف يمكن كونهما وقعا قبل الوضع، والأخذ هو عين الصب هنا، والمعنى وضعت له ماء فشرع في الغسل، ثم شرحت الصفة. قوله: (قال سليمان) أي الأعمش، وقائل ذلك أبو عوانة، وفاعل " أذكر " سالم بن أبي الجعد، وقد تقدم من رواية عبد الواحد وغيره عن الأعمش، " فغسل يديه مرتين أو ثلاثا " ولابن فضيل عن الأعمش " فصب على يديه ثلاثا " ولم يشك، أخرجه أبو عوانة في مستخرجه، فكأن الأعمش كان يشك فيه ثم تذكر فجزم لأن سماع ابن فضيل منه متأخر. قوله: (ثم تمضمض) وللأصيلي " مضمض " بغير تاء. قوله: (وغسل قدميه) كذا لأبي ذر، وللأكثر " فغسل " بالفاء. قوله: (فقال بيده) أي أشار، وهو من إطلاق القول على الفعل كما تقدم مثله. قوله: (ولم يردها) بضم أوله وإسكان الدال من الإرادة، والأصل " يريدها " لكن جزم بلم، ومن قالها بفتح أوله وتشديد الدال فقد صحف وأفسد المعنى، وقد حكى في المطالع أنها رواية ابن السكن قال: وهي وهم. وقد رواه الإمام أحمد عن عفان عن أبي عوانة بهذا الإسناد وقال في آخره " فقال هكذا وأشار بيده أن لا أريدها " وسيأتي في رواية أبي حمزة عن الأعمش " فناولته ثوبا فلم يأخذه " والله أعلم. *3* الشرح: قوله: (باب إذا جامع ثم عاد) أي ما حكمه. وللكشميهني " عاود " أي الجماع، وهو أعم من أن يكون لتلك المجامعة أو غيرها، وقد أجمعوا على أن الغسل بينهما لا يجب ويدل على استحبابه حديث أخرجه أبو داود والنسائي عن أبي رافع " أنه صلى الله عليه وسلم طاف ذات يوم على نسائه يغتسل عند هذه وعند هذه، قال فقلت: يا رسول الله ألا تجعله غسلا واحدا؟ قال: هذا أزكى وأطيب وأطهر " واختلفوا في الوضوء بينهما فقال أبو يوسف: لا يستحب. وقال الجمهور: يستحب. وقال ابن حبيب المالكي وأهل الظاهر: يجب. واحتجوا بحديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ بينهما وضوءا " أخرجه مسلم من طريق أبي حفص عن عاصم عن أبي المتوكل عنه. وأشار ابن خزيمة إلى أن بعض أهل العلم حمله على الوضوء اللغوي فقال: المراد به غسل الفرج، ثم رده ابن خزيمة بما رواه من طريق ابن عيينة عن عاصم في هذا الحديث فقال " فليتوضأ وضوءه للصلاة " وأظن المشار إليه هو إسحاق بن راهويه، فقد نقل ابن المنذر عنه أنه قال: لا بد من غسل الفرج إذا أراد العود. ثم استدل ابن خزيمة على أن الأمر بالوضوء للندب لا للوجوب بما رواه من طريق شعبة عن عاصم في حديث أبي سعيد المذكور كرواية ابن عيينة وزاد " فإنه أنشط للعود " فدل على أن الأمر للإرشاد أو للندب. ويدل أيضا على أنه لغير الوجوب ما رواه الطحاوي من طريق موسى بن عقبة عن أبي إسحاق عن الأسود عن عائشة قالت " كان النبي صلى الله عليه وسلم يجامع ثم يعود ولا يتوضأ". الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ ذَكَرْتُهُ لِعَائِشَةَ فَقَالَتْ يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ ثُمَّ يُصْبِحُ مُحْرِمًا يَنْضَخُ طِيبًا الشرح: قوله: (ويحيى بن سعيد) هو القطان، وينبغي أن يثبت في القراءة قبل قوله " عن شعبة " لفظ " كلاهما " لأن كلا من ابن أبي عدي ويحيى رواه لمحمد بن بشار عن شعبة وحذف كلاهما من الخط اصطلاح. قوله: (ذكرته) أي قول ابن عمر المذكور بعد باب وهو قوله " ما أحب أن أصبح محرما أنضخ طيبا " وقد بينه مسلم في روايته عن محمد بن المنتشر قال " سألت عبد الله بن عمر عن الرجل يتطيب ثم يصبح محرما " فذكره وزاد " قال ابن عمر: لأن أطلي بقطران أحب إلي من أن أفعل ذلك " وكذا ساقه الإسماعيلي بتمامه عن الحسن بن سفيان عن محمد بن بشار، فكأن المصنف اختصره لكون المحذوف معلوما عند أهل الحديث في هذه القصة، أو حدثه به محمد بن بشار مختصرا. قوله: (أبا عبد الرحمن) يعني ابن عمر، استرحمت له عائشة إشعارا بأنه قد سها فيما قاله، إذ لو استحضر فعل النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل ذلك. قوله: (فيطوف) كناية عن الجماع، وبذلك تظهر مناسبة الحديث للترجمة. وقال الإسماعيلي. يحتمل أن يراد به الجماع، وأن يراد به تجديد العهد بهن. قلت: والاحتمال الأول يرجحه الحديث الثاني لقوله فيه " أعطى قوة ثلاثين " و " يطوف " في الأول مثل " يدور " في الثاني. قوله: (ينضخ) فتح أوله وبفتح الضاد المعجمة وبالخاء المعجمة، قال الأصمعي: النضخ بالمعجمة أكثر من النضح بالمهملة. وسوى بينهما أبو زيد. وقال ابن كيسان: إنه بالمعجمة لما ثخن، وبالمهملة لما رق. وظاهره أن عين الطيب بقيت بعد الإحرام، قال الإسماعيلي: بحيث أنه صار كأنه يتساقط منه الشيء بعد الشيء. وسنذكر حكم هذه المسألة في كتاب الحج إن شاء الله تعالى. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ قَالَ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدُورُ عَلَى نِسَائِهِ فِي السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُنَّ إِحْدَى عَشْرَةَ قَالَ قُلْتُ لِأَنَسٍ أَوَكَانَ يُطِيقُهُ قَالَ كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّهُ أُعْطِيَ قُوَّةَ ثَلَاثِينَ وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ إِنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُمْ تِسْعُ نِسْوَةٍ الشرح: قوله: (معاذ بن هشام) هو الدستوائي، والإسناد كله بصريون. قوله: (في الساعة الواحدة) المراد بها قدر من الزمان، لا ما اصطلح عليه أصحاب الهيئة. قوله: (من الليل والنهار) الواو بمعنى " أو " جزم به الكرماني. ويحتمل أن تكون على بابها بأن تكون تلك الساعة جزءا من آخر أحدهما، وجزءا من أول الآخر. قوله: (وهن إحدى عشرة) قال ابن خزيمة: تفرد بذلك معاذ بن هشام عن أبيه، ورواه سعيد بن أبي عروبة وغيره عن قتادة فقالوا " تسع نسوة". انتهى. وقد أشار البخاري إلى رواية سعيد بن أبي عروبة فعلقها هنا، ووصلها بعد اثني عشر بابا بلفظ " كان يطوف على نسائه في الليلة الواحدة، وله يومئذ تسع نسوة " وقد جمع ابن حبان في صحيحه بين الروايتين بأن حمل ذلك على حالتين، لكنه وهم في قوله " أن الأولى كانت في أول قدومه المدينة حيث كان تحته تسع نسوة، والحالة الثانية في آخر الأمر حيث اجتمع عنده إحدى عشرة امرأة " وموضع الوهم منه أنه صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة لم يكن تحته امرأة سوى سودة، ثم دخل على عائشة بالمدينة، ثم تزوج أم سلمة، وحفصة، وزينب بنت خزيمة في السنة الثالثة والرابعة، ثم تزوج زينب بنت جحش في الخامسة، ثم جويرية في السادسة، ثم صفية وأم حبيبة وميمونة في السابعة، وهؤلاء جميع من دخل بهن من الزوجات بعد الهجرة على المشهور واختلف في ريحانة وكانت من سبي بني قريظة فجزم ابن إسحاق بأنه عرض عليها أن يتزوجها ويضرب عليها الحجاب فاختارت البقاء في ملكه، والأكثر على أنها ماتت قبله في سنة عشر، وكذا ماتت زينب بنت خزيمة بعد دخولها عليه بقليل، قال ابن عبد البر: مكثت عنده شهرين أو ثلاثة. فعلى هذا لم يجتمع عنده من الزوجات أكثر من تسع، مع أن سودة كانت وهبت يومها لعائشة كما سيأتي في مكانه، فرجحت رواية سعيد. لكن تحمل رواية هشام على أنه ضم مارية وريحانة إليهن وأطلق عليهن لفظ " نسائه " تغليبا. وقد سرد الدمياطي - في السيرة التي جمعها - من اطلع عليه من أزواجه ممن دخل بها أو عقد عليها فقط أو طلقها قبل الدخول أو خطبها ولم يعقد عليها فبلغت ثلاثين، وفي المختارة من وجه آخر عن أنس " تزوج خمس عشرة: دخل منهن بإحدى عشرة ومات عن تسع". وسرد أسماءهن أيضا أبو الفتح اليعمري ثم مغلطاي فزدن على العدد الذي ذكره الدمياطي، وأنكر ابن القيم ذلك. والحق أن الكثرة المذكورة محمولة على اختلاف في بعض الأسماء، وبمقتضى ذلك تنقص، العدة. والله أعلم. قوله: (أو كان) بفتح الواو هو مقول قتادة والهمزة للاستفهام ومميز ثلاثين محذوف أي ثلاثين رجلا، ووقع في رواية الإسماعيلي من طريق أبي موسى من معاذ بن هشام " أربعين " بدل ثلاثين، وهي شاذة من هذا الوجه، لكن في مراسيل طاوس مثل ذلك، وزاد " في الجماع"، وفي صفة الجنة لأبي نعيم من طريق مجاهد مثله وزاد " من رجال أهل الجنة"، ومن حديث عبد الله بن عمر ورفعه " أعطيت قوة أربعين في البطش والجماع " وعند أحمد والنسائي وصححه الحاكم من حديث زيد بن أرقم رفعه " إن الرجل من أهل الجنة ليعطى قوة مائة في الأكل والشرب والجماع والشهوة " فعلى هذا يكون حساب قوة نبينا أربعة آلاف. قوله: (وقال سعيد) هو ابن أبي عروبة، كذا للجميع، إلا أن الأصيلي قال: إنه وقع في نسخة " شعبة " بدل سعيد قال " وفي عرضنا على أبي زيد بمكة: سعيد " قال أبو علي الجياني وهو الصواب. قلت: وقد ذكرنا قبل أن المصنف وصل رواية سعيد، وأما رواية شعبة لهذا الحديث عن قتادة فقد وصلها الإمام أحمد. قال ابن المنير: ليس في حديث دورانه على نسائه دليل على الترجمة، فيحتمل أنه طاف عليهن واغتسل في خلال ذلك عن كل فعلة غسلا. قال والاحتمال في رواية الليلة أظهر منه في الساعة. قلت: التقييد بالليلة ليس صريحا في حديث عائشة، وأما حديث أنس فحيث جاء فيه التصريح بالليلة قيد الاغتسال بالمرة الواحدة. كذا وقع في روايات للنسائي وابن خزيمة وابن حبان، ووقع التقييد بالغسل الواحد من غير ذكر الليلة في روايات أخرى لهم ولمسلم، وحيث جاء في حديث أنس التقييد بالساعة لم يحتج إلى تقييد الغسل بالمرة لأنه يتعذر أو يتعسر، وحيث جاء فيها تكرار المباشرة والغسل معا، وعرف من هذا أن قوله في الترجمة " في غسل واحد " أشار به إلى ما ورد في بعض طرق الحديث وإن لم يكن منصوصا فيما أخرجه كما جرت به عادته، ويحمل المطلق في حديث عائشة على المقيد في حديث أنس ليتوافقا، ومن لازم جماعهن في الساعة أو الليلة الواحدة عود الجماع كما ترجم به، والله أعلم. واستدل به المصنف في كتاب النكاح على استحباب الاستكثار من النساء، وأشار فيه إلى أن القسم لم يكن واجبا عليه، وهو قول طوائف من أهل العلم، وبه جزم الإصطخري من الشافعية، والمشهور عندهم وعند الأكثرين الوجوب، ويحتاج من قال به إلى الجواب عن هذا الحديث فقيل: كان ذلك برضا صاحبة النوبة كما استأذنهن أن يمرض في بيت عائشة، ويحتمل أن يكون ذلك كان يحصل عند استيفاء القسمة ثم يستأنف القسمة، وقيل كان ذلك عند إقباله من سفر، لأنه كان إذا سافر أقرع بينهن فيسافر بمن يخرج سهمها فإذا انصرف استأنف، وهو أخص من الاحتمال الثاني، والأول أليق بحديث عائشة وكذا الثاني، ويحتمل أن يكون ذلك كان يقع قبل وجوب القسمة ثم ترك بعدها، وأغرب ابن العربي فقال: إن الله خص نبيه بأشياء منها أنه أعطاه ساعة في كل يوم لا يكون لأزواجه فيها حق، يدخل فيها على جميعهن فيفعل ما يريد ثم يستقر عند من لها النوبة، وكانت تلك الساعة بعد العصر، فإن اشتغل عنها كانت بعد المغرب. ويحتاج إلى ثبوت ما ذكره مفصلا. وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم ما أعطي النبي صلى الله عليه وسلم من القوة على الجماع، وهو دليل على كمال البنية وصحة الذكورية، والحكمة في كثرة أزواجه أن الأحكام التي ليست ظاهرة يطلعن عليا فينقلنها، وقد جاء عن عائشة من ذلك الكثير الطيب، ومن ثم فضلها بعضهم على الباقيات. واستدل به ابن التين لقول مالك بلزوم الظهار من الإماء بناء على أن المراد بالزائدتين على التسع مارية وريحانة، وقد أطلق على الجميع لفظ نسائه، تعقب بأن الإطلاق المذكور للتغليب كما تقدم فليس فيه حجة لما ادعى، واستدل به ابن المنير على جواز وطء الحرة بعد الأمة من غير غسل بينهما ولا غيره، والمنقول عن مالك أنه لا يتأكد الاستحباب في هذه الصورة، ويمكن أن يكون ذلك وقع لبيان الجواز فلا يدل على عدم الاستحباب. *3* الشرح: قوله: (باب غسل المذي والوضوء منه) أي بسببه، وفي المذي لغات أفصحها بفتح الميم وسكون الذال المعجمة وتخفيف الياء، ثم بكسر الذال وتشديد الياء، وهو ماء أبيض رقيق لزج يخرج عند الملاعبة أو تذكر الجماع أو إرادته، وقد لا يحس بخروجه. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ حَدَّثَنَا زَائِدَةُ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ كُنْتُ رَجُلًا مَذَّاءً فَأَمَرْتُ رَجُلًا أَنْ يَسْأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَكَانِ ابْنَتِهِ فَسَأَلَ فَقَالَ تَوَضَّأْ وَاغْسِلْ ذَكَرَكَ الشرح: قوله: (حدثنا أبو الوليد) هو الطيالسي. قوله: (عن أبي عبد الرحمن) هو السلمي. قوله: (مذاء) صيغة مبالغة من المذي، يقال مذي بمذي مثل مضى يمضي ثلاثيا، ويقال أيضا أمذى يمذي بوزن أعطى يعطي رباعيا. قوله: (فأمرت رجلا) هو المقداد بن الأسود كما تقدم في باب الوضوء من المخرجين من وجه آخر، وزاد فيه " فاستحييت أن أسأل". قوله: (لمكان ابنته) في رواية مسلم من طريق ابن الحنفية عن علي " من أجل فاطمة " رضي الله عنهما. قوله: (توضأ) هذا الأمر بلفظ الإفراد يشعر بأن المقداد سأل لنفسه، ويحتمل أن يكون سأل لمبهم أو لعلي فوجه النبي صلى الله عليه وسلم الخطاب إليه، والظاهر أن عليا كان حاضر السؤال، فقد أطبق أصحاب المسانيد والأطراف على إيراد هذا الحديث في مسند علي، ولو حملوه على أنه لم يحضر لأوردوه في مسند المقداد. ويؤيده ما في رواية النسائي من طريق أبي بكر بن عياش عن أبي حصين في هذا الحديث عن علي قال " فقلت لرجل جالس إلى جنبي سله فسأله " ووقع في رواية مسلم " فقال: يغسل ذكره ويتوضأ " بلفظ الغائب، فيحتمل أن يكون سؤال المقداد ووقع على الإبهام وهو الأظهر، ففي مسلم أيضا " فسأله عن المذي يخرج من الإنسان " وفي الموطأ نحوه، ووقع في رواية لأبي داود والنسائي وابن خزيمة ذكر سبب ذلك من طريق حصين بن قبيصة عن علي قال " كنت رجلا مذاء فجعلت اغتسل منه في الشتاء حتى تشقق ظهري، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تفعل " ولأبي داود وابن خزيمة من حديث سهل بن حنيف أنه وقع له نحو ذلك وأنه سأل عن ذلك بنفسه، ووقع في رواية للنسائي أن عليا قال " أمرت عمارا أن يسأل " وفي رواية لابن حبان والإسماعيلي أن عليا قال " سألت". وجمع ابن حبان بين هذا الاختلاف بأن عليا أمر عمارا أن يسأل، ثم أمر المقداد بذلك، ثم سأل بنفسه. وهو جمع جيد إلا بالنسبة إلى آخره لكونه مغايرا لقوله إنه استحيي عن السؤال بنفسه لأجل فاطمة فيتعين حمله على المجاز بأن بعض الرواة أطلق أنه سأل لكونه الآمر بذلك، وبهذا جزم الإسماعيلي ثم النووي، ويؤيد أنه أمر كلا من المقداد وعمارا بالسؤال عن ذلك ما رواه عبد الرزاق من طريق عائش بن أنس قال " تذاكر علي والمقداد وعمار المذي فقال علي: إنني رجل مذاء فاسألا عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أحد الرجلين " وصحح ابن بشكوال أن الذي تولى السؤال عن ذلك هو المقداد، وعلى هذا فنسبة عمار إلى أنه سأل عن ذلك محمولة على المجاز أيضا لكونه قصده، لكن تولى المقداد الخطاب دونه والله أعلم. واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم "توضأ " على أن الغسل لا يجب بخروج المذي، وصرح بذلك في رواية لأبي داود وغيره وهو إجماع، وعلى أن الأمر بالوضوء منه كالأمر بالوضوء من البول كما تقدم استدلال المصنف به في باب: من لم ير الوضوء إلا من المخرجين، وحكى الطحاوي عن قوم أنهم قالوا بوجوب الوضوء بمجرد خروجه، ثم رد عليهم بما رواه من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن المذي فقال " فيه الوضوء وفي المني الغسل " فعرف بهذا أن حكم المذي حكم البول وغيره من نواقض الوضوء لا أنه يوجب الوضوء بمجرده. قوله: (وأغسل ذكرك) هكذا وقع في البخاري تقديم الأمر بالوضوء على غسله، ووقع في العمدة نسبة إلى البخاري بالعكس، لكن الواو لا ترتب فالمعنى واحد، وهي رواية الإسماعيلي، فيجوز تقديم غسله على الوضوء وهو أولى، ويجوز تقديم الوضوء على غسله لكن من يقول بنقض الوضوء بمسه يشترط أن يكون ذلك بحائل، واستدل به ابن دقيق العيد على تعين الماء فيه دون الأحجار ونحوها لأن ظاهره يعين الغسل والمعين لا يقع الامتثال إلا به، وهذا ما صححه النووي في شرح مسلم، وصحح في باقي كتبه جواز الاقتصار إلحاقا بالبول وحملا للأمر بغسله على الاستحباب أو على أنه خرج مخرج الغالب وهذا المعروف في المذهب، واستدل به بعض المالكية والحنابلة على إيجاب استيعابه بالغسل عملا بالحقيقة، لكن الجمهور نظروا إلى المعنى، فإن الموجوب لغسله إنما هو خروج الخارج فلا تجب المجاوزة إلى غير محله، ويؤيده ما عند الإسماعيلي في رواية " فقال توضأ واغسله " فأعاد الضمير على المذي، ونظير هذا قوله " من مس ذكره فليتوضأ " فإن النقض لا يتوقف على مس جميعه، واختلف القائلون بوجوب غسل جميعه هل هو معقول المعنى أو للتعبد؟ فعلى الثاني تجب النية فيه، قال الطحاوي: لم يكن الأمر بغسله لوجوب غسله كله بل ليتقلص فيبطل خروجه كما في الضرع إذا غسل بالماء البارد يتفرق لبنه إلى داخل الضرع فينقطع بخروجه، واستدل به أيضا على نجاسة المذي وهو ظاهر، وخرج ابن عقيل الحنبلي من قول بعضهم: إن المذي من أجزاء المني رواية بطهارته، وتعقب بأنه لو كان منيا لوجب الغسل منه، واستدل به على وجوب الوضوء على من به سلس المذي للأمر بالوضوء مع الوصف بصيغة المبالغة الدالة على الكثرة، وتعقبه ابن دقيق العيد بأن الكثرة هنا ناشئة عن غلبة الشهوة مع صحة الجسد، بخلاف صاحب السلس فإنه ينشأ عن علة في الجسد، ويمكن أن يقال: أمر الشارع بالوضوء منه ولم يستفصل فدل على عموم الحكم، واستدل به على قبول خبر الواحد، وعلى جواز الاعتماد على الخبر المظنون مع القدرة على المقطوع وفيهما نظر لما قدمناه من أن السؤال كان بحضرة علي، ثم لو صح أن السؤال كان في غيبته لم يكن دليلا على المدعي لاحتمال وجود القرائن التي تحف الخبر فترقيه عن الظن إلى القطع قاله القاضي عياض. وقال ابن دقيق العيد: المراد بالاستدلال به على قبول خبر الواحد مع كونه خبر واحد أنه صورة من الصور التي تدل وهي كثيرة تقوم الحجة بجملتها لا بفرد معين منها. وفيه جواز الاستنابة في الاستفتاء، وقد يؤخذ منه جواز دعوى الوكيل بحضرة موكله، وفيه ما كان الصحابة عليه من حرمة النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره، وفيه استعمال الأدب في ترك المواجهة بما يستحيي منه عرفا، وحسن المعاشرة مع الأصهار وترك ذكر ما يتعلق بجماع المرأة ونحوه بحضرة أقاربها، وقد تقدم استدلال المصنف به في العلم لمن استحيي فأمر غيره بالسؤال، لأن فيه جميعا بين المصلحتين: استعمال الحياء، وعدم التفريط في معرفة الحكم. *3* الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَأَلْتُ عَائِشَةَ فَذَكَرْتُ لَهَا قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ مَا أُحِبُّ أَنْ أُصْبِحَ مُحْرِمًا أَنْضَخُ طِيبًا فَقَالَتْ عَائِشَةُ أَنَا طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ طَافَ فِي نِسَائِهِ ثُمَّ أَصْبَحَ مُحْرِمًا الشرح: تقدم الكلام على الحديث قبل باب، وموضع الاستدلال به أن قولها " طاف في نسائه " كناية عن الجماع، ومن لازمه الاغتسال. وقد ذكرت أنها طيبته قبل ذلك، وأنه أصبح محرما. ومن فوائده أيضا وقوع رد بعض الصحابة على بعض بالدليل، واطلاع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على ما لا يطلع عليه غيرهن من أفاضل الصحابة، وخدمه الزوجات لأزواجهن، والتطيب عند الإحرام وسيأتي في الحج. وقال ابن بطال: فيه أن السنة اتخاذ الطيب للرجال والنساء عند الجماع. الحديث: حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَكَمُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفْرِقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ الشرح: قوله: (حدثنا الحكم) هو ابن عتيبة، هو وشيخه إبراهيم النخعي وشيخه الأسود بن يزيد فقهاء كوفيون تابعيون. قوله: (وبيص) بفتح الواو وكسر الموحدة بعدها ياء تحتانية ثم صاد مهملة هو البريق. وقال الإسماعيلي وبيص، الطيب تلألؤه وذلك لعين قائمة لا للريح فقط. قوله: (مفرق) بفتح الميم وكسر الراء ويجوز فتحها. ودلالة هذا المتن على الترجمة إما لكونها قصة واحدة، وإما لأن من سنن الإحرام الغسل عنده، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يدعه. وفيه أن بقاء الطيب على بدن المحرم لا يضر بخلاف ابتدائه بعد الإحرام.
|